المساهمات : 156 تاريخ التسجيل : 02/01/2008 العمر : 54
موضوع: يمامة بيضا السبت يناير 05, 2008 11:09 pm
«يمامة بيضا» عرض مسرحي غنائي يستوحي توفيق الحكيم
الفكر المصري يفتش في دفاتره القديمة
القاهرة: حسين محمود
شخصيات توفيق الحكيم في «عودة الروح» تغني وترقص على المسرح، والحكيم يصعد على الخشبة ويعلق على الأحداث، «ميوزيكال» يكسر جدران الماضي بحثاً عن التنوير.
إذا قرأت كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» أو أي مؤلف لتوفيق الحكيم، فسوف تكتشف كم أن الفكر العربي اليوم يواجه أزمة، ولا مناص من التفتيش في هذه الدفاتر التنويرية القديمة لكي نعثر فيها على ضالتنا، رغم السخرية المستترة وراء هذا.
وهو ما فعله الشاعر العامي المصري جمال بخيت في مسرحيته «يمامة بيضا» التي تقدم حالياً على «مسرح السلام» في القاهرة، وتعتمد على عملين أساسيين لتوفيق الحكيم. اعتمد بخيت على مقولة عامة مؤداها أنه «لا يجب أن يستبد حاكم مهما كان نقاؤه، بشعب مهما كانت سذاجته».. ويقول إن هذا هو الدرس الذي تعلمه من قراءة «عودة الروح» و«عودة الوعي» لتوفيق الحكيم.
«عودة الروح» القصة التي استوحى منها جمال عبد الناصر ورفاقه ثورة يوليو، أو هكذا يقال، أما «عودة الوعي» فتبدو اعتذارا عن استلهام الثورة لهذه الرواية، وكانت، كما رآها البعض، انقلابا على عبد الناصر وعصره. العنوان الأول يحيل إلى رواية، أما الثاني فيحيل إلى ما يشبه دراسة تحليلية للواقع المصري أثناء وعقب حكم عبد الناصر. توفيق الحكيم يتوق في الرواية إلى الزعيم الذي يخلص البلاد من فساد الحكم واحتلال الإنجليز. وفي«عودة الوعي» يدين الحكيم الاستبداد مهما كانت حجته.
ما قاله الحكيم في الثلاثينات مع «عودة الروح» وفي السبعينات مع «عودة الوعي»، يعيد جمال بخيت طرحه شعرا في هذه المسرحية، مع استعارة شخصيات «عودة الروح»، لأن «عودة الوعي» لم تكن بها شخصيات. وقدم المؤلف في هذا العمل لوحات من رواية الحكيم، ثم قدم الحكيم نفسه معلقا على الأحداث، أما القوام الأساسي فكان موسيقيا غنائيا، يعيد إلينا المسرح الاستعراضي بكل مقوماته.
ورغم الطرح المعتمد على أفكار تنويرية، واللوحات المبنية على أشهر وأنجح قصص الحكيم، إلا أن الشق الدرامي بقي ضعيفا، حتى ليبدو أن بعض الأغاني محشورة حشرا، والحوار كأنه شعارات سياسية زاعقة نتجت مباشرة من عقل المؤلف وموجهة مباشرة لجمهور النظارة.
ومع ذلك، نجح العرض، بفضل الكلمة الجميلة لجمال بخيت، وغناء عائلة الحجار - الكبير علي وابنه الواعد أحمد - وألحان عمار الشريعي الذكية. عناصر اجتمعت مفاتيحها في يد المخرج حسام الدين صلاح، الذي استطاع أن يقدم عرضاً فيه كل شيء، بما في ذلك الرقص الشرقي.
ولو كان من ملاحظات فهي على المشهد الذي جمع المسيحي والمسلم واليهودي. فقد أنكر المؤلف مشاركة اليهود المصريين في الكفاح من أجل الاستقلال، وهو أمر ينفيه التاريخ، ويؤكد وجود عناصر يهودية كافحت مع اليسار المصري من أجل الاستقلال. صحيح أن شعار الهلال والصليب لم يكن يشير إلى مشاركة يهودية، ذلك لأن اليهود المصريين لم يكن عددهم يتجاوز المائة ألف شخص.
كان معي في العرض أدريانو بيليسترين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة روما، وكانت له ملاحظات، رغم أنه لم يفهم كثيرا مما قيل فيه. ولكن الحالة التي قدمها حسام الدين صلاح، استطاعت أن تنقل حتى لمن لم يفهم الكلام الروح المصرية الشعبية التي تشع فرحا وفكاهة. وكان لضيفي الإيطالي ملاحظة حول الشخصية المصرية، فهو يراها الآن متجهمة أقرب إلى العبوس، بعد أن كانت قبل ثلاثين سنة مبتسمة مرحة، لدرجة تقترب أحيانا من البلاهة. لذلك فهو حائر في أمر هذه الشخصية التي لا تعرف الحل الوسط. شاهد هذا على وجوه الممثلين المقنعة. فهناك محمد عبد الرازق، الذي يقترب بأدائه من التراجيدكوميك، الملحمي على طريقة محمود المليجي، وهناك محمد شرف، الذي تتعرف فيه على المصري المرح وتحس بأنه قريب منك. وهناك فاطمة الكاشف المتألقة في دور الأخت الكبرى، وهدى عمار التي استطاعت أن تنقل رومانسية شخصية سنية وتحولاتها إلى شخصية واقعية واعية، وغيرهم من شخصيات العرض، ومعهم الصوت القوي لمحمد زكي، الذي غنى ألحان الشريعي الجميلة.
لكن المفاجأة كانت في شخصية «مبروك»، التي أداها المنولوجست سابقا الممثل الموهوب حاليا محمود عزب. مبروك هو الخادم الذي يعرف كل شيء، ويتمتع بذكاء لا يقدر عليه أكبر مثقفي العائلة، حلمه أن يصبح مثل العمدة، يستمتع بحياة اللهو، ويشبع احتياجاته الاستهلاكية. هذا الخادم الذي يبدو أبلها، هو شديد الدهاء، حتى أن المخرج يقدمه على المسرح في أول مشهد يظهر فيه على أنه ثعبان يتلوى. استطاع عزب أن يقدم الشخصية بكل تحولاتها وتطورها الروائي، وبقدرة كوميدية دون ابتذال أو خروج على النص (إلا قليلا).
ويستحق الإشادة أيضا الشاب أحمد الحجار في دور محسن، فقد كان مثل أبيه صوتا جميلا وممثلا موفقا، أما إيمان الشرقاوي فنجحت في تحويل دورها الباهت إلى دور له مذاقه الخاص.
وبخلاف البنية الدرامية الضعيفة للنص، والتهادي الهادئ لهدى عمار لتعويض فاصل موسيقي في حوار غنائي مع علي الحجار، كان يجب على الملحن ألا يطيله إلى هذا الحد، وكان على المخرج أن يعوض هذه الفجوة بحركة مسرحية نابعة من الموقف والشخصية. بخلاف ذلك، فإن هذا «الميوزيكال» أعطانا انطباعا بأننا أمام عمل يذكرنا بيوسف شاهين. وربما كان السبب هو براعة المخرج في الربط «المونتاجي» بين لوحاته بطريقة أقرب إلى فن السينما، حتى أننا نفاجأ في أحد مشاهد المسرحية بالممثل لطفي لبيب الذي لا يشارك في العرض، يمر على المسرح ويحيي زملاءه. مثل المشاهد السينمائية التي يظهر فيها المخرج في إحدى اللقطات على طريقة هيتشكوك، وشاهين ومخرجين مصريين آخرين، أذكر منهم خيري بشارة.
بالنسبة لضيفي الإيطالي كان هذا تكسيرا لكل قوانين المسرح وحواجزه، ولكن على الأرجح أن حسام الدين صلاح، بدا شاعر الإخراج المصري، ويستحق بجدارة لقب أفضل مخرج مسرحي عام 2007 الذي أعطته له الكثير من القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية في هوجة استفتاءات آخر العام.